الاثنين، 26 ديسمبر 2011

أدب المقاومة في روايات نجيب محفوظ....السيد نجم

لقد شغل نجيب محفوظ في حياته ولقرابة الستين سنة, عقول وأقلام القراء والنقاد, حتى يخال لمن يتابع ما كتب عنه أنه لم يعد هناك ما يمكن الكتابة حول أعماله الروائية! وحقيقة المتابعة تشير إلى أن أعماله نبع لا يجف".

ملامح عامة:




شاع استخدام مصطلح "أدب المقاومة" خلال العقود الأخيرة, وهو لا يعنى أن دلالته جديدة ونحت المصطلح من فراغ, سبقه مصطلح "أدب الحرب" و"أدب المعارك" و"أدب أكتوبر" و"أيام العرب", وكلها تتداخل معا للتعبير في بعض الدلالات المشتركة, وان بدت مختلفة في بعض جوانبها وربما قاصرة أيضا, ليبقى مصطلح "أدب المقاومة" أكثر شمولية, ومتضمنا ما سبقه.


يسعى "أدب المقاومة", لتحقيق أهدافه من خلال التركيز على الظروف الصعبة التي يعيشها الناس, وإبراز الآخر المعتدي الذي يسعى لإضعاف قوتهم, وبالتالي يحث على العمل والأمل.


"أدب المقاومة", هام في إزكاء روح المقاومة بالوعي والفهم للقضية التي تدافع عنها, أن تكون عبدا واعيا لعبوديتك, أفضل من أن تكون عبدا جاهلا سعيدا.


"أدب المقاومة", هو أدب الحث على العمل, وأن المقاومة ليست حالة ذهنية, لأنه يعلي القيم العليا بين الناس. وهو ليس التعبير عن صراع "الأنا" الفردية خلال سعيها لتحقيق رغباتها, بل هو للتعبير عن "الأنا" الفردية الواعية بذاتها وذوات الآخرين لتحقيق أهداف مشتركة.


"أدب المقاومة", هو الأدب الذي يرسخ لقواعد الوجود الإنساني الحق في مقابل الحياة التي تقوم على الصراع "العدواني" بدوافع الاقتناء والجشع والهيمنة.


تعريف اصطلاحي: "أدب المقاومة هو الأدب المعبر عن الذات (الواعية بهويتها) والمتطلعة إلى الحرية, في مواجهة الآخر المعتدي, ليس من أجل الخلاص الفردي, بل لأن يضع المبدع: جماعته/عشيرته/قبيلته/دولته/أمته, موضع اهتمامه, محافظا على القيم العليا.. من الخلاص الجمعي" (وضعه كاتب المقال).


فالمقاومة بالمعنى الشامل تتغلغل في سلوكيات الحياة اليومية للأفراد وحتى مواجهات الشعوب. تبدأ بالوعي بالذات وبالآخر وليس إلى نهاية لأنها "المقاومة" تتجدد في أطرها وتشكيلاتها بالوعي واكتساب الخبرات.


لقد تبنى المبدعون الملتزمون ومنهم "نجيب محفوظ" الهدف - أدب المقاومة - ففي وقفة سريعة أمام الرواية العربية وحدها كاف, ويفسر مقولة أن الوعي بالهوية والحرية يولد المعرفة المقاومة المناسبة. فقد شهد النصف الآخر من القرن التاسع عشر, مرحلة ميلاد جنس الرواية بالترجمة والنقل والاقتباس فضلا عن الاجتهاد. توالت الأجيال, وراجت "الرواية", حتى أن المتابع يكاد يخرج بنتيجة أساسية, ألا وهي: أن ميلاد الرواية كشكل أدبي جديد, ولد وترعرع من أجل القضايا العامة والوطن, وقد انشغلت الرواية في مهدها بالاستبداد السياسي, والتحرر من الاحتلال, ونقد الذات, والبحث فى "الهوية".


لم تكن روايات "جورجي زيدان" إلا تأكيدا على إيجابيات التاريخ العربي والإسلامي, حتى بدت الرواية عنده وكأنها تؤرخ لفترة زمنية ما, من خلال حدوتة حب تقليدية, وكانت المرأة دائما رمزا للبطولة والوطن والإخلاص مع البطل "الأنموذج".


كان "فرح انطون" واعيا في حواراته مع الشيخ "محمد عبده" في الدعوة إلى البعد عن التعصب وكره الرذيلة ومحاربتها بالفن الجميل, وهو ما عبر عنه "أنطون" في روايتيه: "الدين والعلم والمال" عام 1903, و"أورشليم الجديدة" عام 1904. وكانا للدعوة المحذرة من الصراع بين الطوائف والطبقات والفئات داخل المجتمع, والا أصبح الهلاك واقعا.































































أما الكاتب "يوسف أفندي حسن صبري" فكتب رواية "فتاة الثورة العرابية" عام 1930, التي جعلت من مذكرات أحمد عرابي أساسا في بناء وتشكيل روايته, مع قصة حب رومانسية للجندي الفلاح القائم على خدمة الزعيم, هذا المزج بين الحب الذاتي وحب الوطن وإبرز فكرة الهوية والتحرر من المحتل مباشرة.


كما كانت رواية "في الحياة قصاص" للكاتب "عبد الحميد البوقرقاصى" عام 1909, وروايتا "محمود خيري" المسماة: "الفتى الريفي" و"الفتاة الريفية" عامي 1903 و1904, أيضا الرواية الشامية "الساق على الساق" للكاتب "احمد فارس الشدياق" عام 1913.. كلها نماذج تدعو إلى تعميق مفهوم الهوية والانتماء والدعوة للتحرر.


ويبدو أن الرواية العربية لم تعط نفسها للكاتب بشكل جيد فنيا, طوال الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى, حتى كانت الكتابات الجديدة للرواية على يد "نجيب محفوظ", "حنا مينا", "سهيل إدريس", "فتحي غانم", "محمود المسعدى", "محمد الديب".. وغيرهم.


لعل أهم ملامح أدب المقاومة: التعبير عن الذات الجمعية والهوية.. أدب الوعي والحث على تجاوز الأزمات الشعبية والحروب والاضطهاد والقهر.. الوعي بالآخر العدواني وكشف أخطائه وأخطاره, من أجل المزيد من الوعي بالذات والمواجهة.. أدب إنساني من حيث هو دعوة لتقوية الذات في مواجهة الآخر, وليس دعوة للعدوان.


وتكثر الملامح وتتعدد في روايات نجيب محفوظ, ليس بتعزيز القدرة على مواجهة الآخر فقط, ولكن بتعزيز الذات (الجمعية) وتعظيم عناصر قوتها.


* ملامح "المقاومة" في روايات محفوظ:




.. لقد شيد نجيب محفوظ عالمه الروائي في أعرق أحياء القاهرة‏؛‏ حي الجمالية‏,‏ حيث بقايا العمائر والمساجد والخانات‏,‏ ويصور جو حي الحسين (الشعبي)‏,‏ واستند على استقصاء التحولات السياسية التي حدثت منذ نهاية الأربعينيات خلال وبعد الحرب العالمية الثانية‏,‏ ورصد تحولات العالم وصراعات القوى الكبري ومدى تأثيرها على سياق وتطورات الحياة المصرية‏.‏ واتخذ من الأسرة البرجوازية الصغيرة بؤرة تعكس كل هذه التغيرات بشموليتها السياسية والثقافية والروحية والأخلاقية‏,‏ آخذا في الاعتبار تغيرات طراز المعمار والأزياء والعادات وحتى فنون الغناء المصري‏,‏ لذلك كان أبرع كتاب الرواية المصريين الذين يمكن دراسة تحولات المجتمع وانعكاسها على النص الروائي عنده في معماره وتشكيله وبنائه الأسلوبي ودرامية الأحداث. إن الخاص والعام والجزئي والكلي والنسبي والمطلق في بناء نسق النص الروائي هو موازاة وتجاوز لكلية المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية‏.


وان بدا ممثلا لمفاهيم المثقف البرجوازي الصغير المتعاطف مع فكر المرحلة الناصرية بعد ثورة 1952‏,‏ يرفع من شأن "الحرية" فى الرأي والتعددية الحزبية ويحترم وجهات نظر الآخرين‏,‏ رافضا الديكتاتورية والنظم الشمولية‏.‏


أما تغيرات المجتمع وانعكاسها على النص الروائي موجود في معظم أعماله الواقعية النقدية والواقعية الرمزية‏,‏ ولعل أبرزها على "زقاق المدق"‏ واكتمالها في "ميرامار" و‏"‏ثرثرة فوق النيل".


وقد تجلى ذلك في اختيار نماذج شخصياته الروائية, ثم رصد الأحداث والملامح السياسية والاجتماعية, وان لزم عدم إغفال حقيقة أن "محفوظ" بدأ كتابة الرواية بأربع روايات من وحى التاريخ المصري القديم, وهي: "همس الجنون", "عبث الأقدار", "رادوبيس", "كفاح طيبة". حيث أبرز بطولات الإنسان المصري العادي البسيط, وليس لتمجيد الملوك وسكان الأهرامات, وهو وحده ما يشي بدلائل انتماءات الكاتب منذ بداياته.


يمكن الإشارة إلى ملمحين في روايات محفوظ للكشف عن البعد المقاوم فيها, وهما اختياراته للشخصيات الروائية, ثم اختياراته للأحداث والوقائع والتصوير المكاني.































































بعض النماذج البارزة لشخصياته: نموذج الحزبي‏.. حيث كان "عيسى الدباغ" صاحب الصولجان والتاريخ النضالي قبل ثورة 52, وقد أزاحوه في التطهير بعيدا عن أي عمل سياسي أو اجتماعي بعد الثورة, تعرف على "ناني" فتاة الليل التي انتهى عندها كل طموحاته وأفعاله داخل محل إقامته البعيد عن القاهرة (الإسكندرية).. رواية "السمان والخريف".


نموذج الشخصية اليسارية‏؛ وقد تكرر في أكثر من رواية, ذلك الذي آمن بكل القيم العليا الرافضة لقهر الإنسان وظلمه, الحالم بالمجتمع المتنامي القادر على إسعاد أهله وناسه, هذا المناضل سقط في يم من الانحطاط بعد عدد من الهزائم, التي بدأت ولم تنته. رواية "القاهرة الجديدة", ورواية "ميرامار".


نموذج السلفي أو الأصولي. واللافت هنا أن محفوظ رصد هذا الأصولي منذ أعماله الروائية المبكرة, مع بيان قدر من تعدد ملامحها وسطوة وجودها في الرواية (المجتمع), وهو ما يحتاج إلى (دراسة خاصة). نشير فقط إلى "عبدالمنعم" في رواية "السكرية" والذي بدأ يساريا ثوريا ضمن الفاعلين في انتفاضة الطلبة والعمال عام 1946.


نموذج الشخصية الانتهازية‏‏. فكان عضو لجنة "الاتحاد الاشتراكي" (التنظيم السياسي بمصر خلال فترة الستينيات والسبعينيات) ذلك المدعى وقد عمل على سرقة المصنع الذي يعمل به, مستعينا بسلطات التنظيم داخل المصنع.


* أضاف محفوظ العديد من الشخصيات (المقاومة) بملامحها وقدرتها الخاصة والمتواضعة, حتى أصبحت دلالة في ذاتها, ومنها: .. "نفيسة" تلك الفتاة الفقيرة في رواية "بداية ونهاية" ويصلح أن نطلق عليها لقب "المموس الفاضلة", حتى أنها تخلص من حياتها بإلقاء نفسها في النهر وانتحرت حفاظا على وجاهة وسمعة أخيها الضابط الذي تربى وتعلم من فيض عطائها. .. "سعيد مهران" ذلك السفاح أو الذي بات سفاحا بفعل أفاعيل الانتهازيين والأحوال الاجتماعية القاهرة, حتى شعرنا بالإشفاق عليه, وتعاطف القارئ معه, في رواية "اللص والكلاب". تلك الرواية التي اعتبرها النقاد نقلة هامة في تاريخ الرواية العربية.


.. "عباس الحلو" الذي عاش في "الزقاق" فقيرا, ذلك الزقاق الذي بدا منعزلا عن العالم, مكتفيا بما فيه, اقتحمه العالم بعد الحرب العالمية الثانية.. فخرج "عباس" ليعمل في "الكامب" أو المعسكر الانجليزي حتى يوفر ما يجعله قادرا على الزواج من "حميدة". قهرتهما الأحداث ولم يلتقيا بعد خروجهما من الزقاق إلا عندما ضاعت "حميدة" في ليل الرزيلة حتى قتلت أخيرا.


.. "عاشور الناجي" وقد بدا في أعمال "محفوظ" الرمزية على أكثر من اسم, فهو الفتوة المدافع عن الحق والحقيقة, مقاوم الظلم والظالمين.


وتتعدد الشخصيات المقاومة, فمنذ نموذج "فهمي" ابن السيد أحمد عبدالجواد في "بين القصرين"‏,‏ وهو نموذج الوفدي المحب لسعد زغلول قائد ثورة ‏1919‏ حتي "عامر وجدي‏"‏ في ‏"ميرامار", ويدعي النقد المتابع أن تلك الشخصيات تعبر عن تجربة وفكر شخص "نجيب محفوظ" نفسه.


* كما تجلت ملامح المقاومة في أعمال محفوظ, رصده للأحداث ونقده المباشر وغير المباشر للواقع المعاش, من خلال الالتفات إلى جزئيات الحياة اليومية. هذا بجانب رصد تغيرات الزمن وانعكاسها على النص الروائي.


‏في رواية "زقاق المدق" مع بدايات العمل رصد الكاتب تخلي المقاهي بالقاهرة عن خدمات الراوية الشعبي الذي يغنى بالربابة, بعد استخدام المذياع, ذلك الاختراع السحري الجديد لتسلية الرواد.‏ كما تجلت مظاهر الخلل في القيم الاجتماعية وفي عادات أهل الزقاق‏,‏ فتواجه أثر ما أحدثته الحرب على معيشة وحياة المصريين نتيجة الحرب العالمية الثانية وأزمات الحكم وتجار السوق السوداء‏,‏ كل ذلك ينعكس علي آليات السرد القصصي وتطور الأحداث وسلوك ومصائر الشخصيات‏.































































كانت الثلاثية في رصدها الكلي لمظاهر الحياة اليومية لأفراد الشعب قبل ثورة ‏1919‏ وحتى أزمات النظام الملكي في‏ 1946.‏ وقد بدأت البرجوازية المصرية في الظهور من خلال عائلة متوسطي التجار‏ (‏السيد عبدالجواد‏), وتابعت أجيالها لترصد مسارات التحولات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية‏,‏ فكان ‏(‏كمال عبدالجواد‏)‏ هو التجلي الجديد للمثقفين الذين التقينا بهم في أعمال توفيق الحكيم‏,‏ وطه حسين‏,‏ ويحيي حقي‏.‏ غير أن همومه لم تكن صراع الشرق مع الغرب قضية الجيل الذي تكون وعيه في حضن الثورة الوطنية ‏1919,‏ لقد حصلت مصر على جزء كبير من استقلالها عام‏ 1936,‏ وتمتعت في ظل الوفد وحكوماته بمراحل من الديمقراطية‏,‏ وتحددت واستقطبت خريطة الطبقات‏,‏ وانعكس التحديث واتساع التعليم والجامعة فأصبحت هموم المثقف المصري في الأربعينيات هي البحث عن طريق‏,‏ وهو الحائر بين المذاهب الفكرية والسياسية‏,‏ الذي يختار الفلسفة والبحث عن الحقيقة جوهرا لحياته وسوف يكون ابن شقيقته‏ (‏خديجة‏)‏ أحمد عاكف الشيوعي امتدادا له‏,‏ ولكنه اتخذ من الصراع الطبقي موقف الماركسي الثوري‏.‏


إن النص الروائي في الثلاثية تركيز وسجل بانورامي موسع للأصداء النفسية والثقافية والأخلاقية لحياة مصر والمصريين.


أخيرا..




لقد تساءل البعض ذات مرة: "الأدب المقاوم: أدب فاعل أم أدب منفعل؟" إذا كان "أدب المقاومة" هو الأدب المعبر عن الذات الجمعية, الواعية بهويتها, المتطلعة إلى حريتها في مواجهة الآخر العدواني.. أي أن المقاومة هي تعضيد الذات الجمعية والبحث عن عناصر قوتها, ثم البحث عن عناصر ضعفها لتلافيها.. وبالتالي الاستعداد لمواجهة الآخر المعتدى.


أدب المقاومة يبدأ قبل ممارسة العنف أو الصراع مع الآخر العدواني. يبدأ بالذات. لذا كان أدب المقاومة معنيا بقضايا: الهوية والحرية والأرض والانتماء وبقضايا الحياة الكريمة للإنسان, وفي جانب منه الاهتمام بالتجربة الحربية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق