'شاعر الشر الجميل' يبدع بالعربية
الشاعر رفعت سلام يترجم الأعمال الشعرية الكاملة لأكثر الشعراء الفرنسيين تأثيراً في الحداثة الشعرية.
أغبياء البرجوازية الذين يتشدقُون دائمًا بكلماتٍ من قبيل 'لا أخلاقي'، 'لا أخلاقية'، 'الأخلاق في الفن' وغيرها من الحماقات، يُذكِّروننِي بـ'لويز فيلديو'، وهي عاهرة بخمسة فرنكات، رافقتني ذات يوم في زيارة إلى اللوڤر، وكانت تلك أول مرة تزور فيها هذا المتحف، فاحمَرَّ وجهُها وراحت تغطيه بكفها وتجذبني من كُم السترة، متسائلةً أمام اللوحات الخالدة، كيف أمكن عرض كل هذه العَوْرَات على الناس". بهذا المقطع الرائع من قصيدة بودلير "قلبي عارياً" يفتتح الشاعر والمترجم رفعت سلام مقدمته الطويلة والضافية للأعمال الشعرية الكاملة لبودلير، الصادرة هذا الأسبوع عن دار الشروق القاهرية في مجلد واحد يقع في 920 صفحة من القطع الكبير، لأول مرة باللغة العربية، هذه المقدمة التي جاءت بعنوان "شاعر الشر الجميل" وقدمت تناقضات حياة بودلير مع ظروفه العامة والخاصة في منتصف القرن التاسع عشر، خلال إنجازه لجذور الحداثة الشعرية الفرنسية والأوروبية، والمرتكزات الأساسية لشعريته المتجاوزة لجميع المدارس الشعرية السابقة عليه والمتزامنة معه، وتأسيسه للحداثة الشعرية في فرنسا وأوروبا، وملامح هذه الحداثة وتجلياتها في نصوصه ورؤيته النقدية. يقول رفعت سلام بعد حوالي قرن ونصف القرن من صدور الطبعة الأولى من "أزهار الشر"، يظل هذا الديوان الصغير أكثر فعالية وحضوراً في الشعرية الفرنسية والعالمية من كل معاصريه، ويظل بودلير أكثر حياةً وتأثيراً من شعراء قرنه اللامعين. لم يكن أحد ليستطيع التنبؤ بذلك. بل لعل الاستخفاف نفسه لم يكن غائباً عن بعض كتابات معاصري بودلير إزاء صدور الديوان، إن لم نرصد التشفِّي والعدائية - التي تصل إلى حدِّ الغِل - لدى بعض الصحفيين ضيقي الأفق، وبالفعل كانت "المعاصرة" - بالنسبة لزمن بودلير- أكثر من "حجاب" يُعمي البصر ويُشوش على البصيرة، فخلال حياته، كان معاصروه يميلون عموماً إلى وضعه جانباً، في الركن، عقابًا له، باعتباره "ولداً خبيثاً"، أو شخصاً "غريب الأطوار". فالقرن التاسع عشر هو قرن ڤيكتور هوغو ولامارتين وشاتوبريان وجوتييه ودي موسيه ودي ڤيني، كقامات إبداعية شاهقة هيمنت على النصف الأول من القرن هيمنةً ساحقة. وفي ظل تلك الهيمنة، صدرت الطبعة الأولى من "أزهار الشر" (25 يونيو 1857)، في 1100 نسخة. فكيف كان لمعاصريه - شعراء ونقاداً وصحفيين - أن يدركوا أن هذا الديوان الصغير، للشاعر الذي لم يتجاوز عمر الشباب، سيكون ألمع ما أنتجه القرن، بما انطوى عليه من فتوحات لا تُستنفَد؟ لن يدرك ذلك سوى ڤيكتور هوغو - ببصيرته الخارقة - حين كتب له "إنك تخلق رعشةً جديدةً في الشعر الفرنسي". وبعد وفاته، في الثانية والأربعين من عمره، كان اعتقاد الأجيال التالية أنه إنما عاش في الجحيم، حيث يشهد مصيره على استمرارية رهيبة للعذاب طوال حياته. ولحظة الوفاة، لم يكن لديه سوى كلمة وحيدة، "سُحقًاً!"، وصورة الشاعر الملعون التي يحملها معه إلى النهاية. وقد تطرقت مقدمة الشاعر رفعت سلام النقدي للرؤى الجمالية والفنية والإنسانية في أعمال بودلير، فتوقف عند "الحب" كاشفاً عن أبعاده ودلالاته، يقول: بودلير شاعر عظيم للحب، لكنه الحب الذي لا يكف عن إثبات تناقضاته. وقد يتلقَّى- في "عطر غرائبي"، في "خصلة الشعر" أو في "الشرفة"- انطباعاً بنشوة عاشقة. لكن السعادة - في القصيدة الأخيرة - ليست سوى نوع من الاستعادة، من التذكر، إلى حد أن المقطوعة الأخيرة لا تملك سوى التساؤل عن إمكانية أن تولد من جديد "هَذِهِ الْعُهُودُ، هَذِهِ الْعُطُورُ، وَهَذِهِ الْقُبُلاَتُ اللاَّنِهَائِيَّة"، مرةً أخرى، من "هَاوِيَةٍ لاَ نَسْبُرُ أَغْوَارَهَا". وبصورة أكثر عمومية، فالحب يقع تحت شارة التعارض. هكذا، على سبيل المثال، في تأثير للتجاور كاشف، فالقصيدة التي تسبق "الشرفة" هي "مبارزة"، التي تصف العلاقة العاشقة كصراع قاتل يترجم "غَضْبَة الْقُلُوبِ النَّاضِجَةِ الْمَجْرُوحَةِ بِالْحُب". ويضيف سلام: ثمة قصائد أخرى تشهد على تمزقات أكثر عمقاً. ففي "إلى عذراء"- على سبيل المثال- فإن الحركة المزدوجة للإذلال الذاتي المازوخي للشاعر إزاء هذه العشيقة المتحولة إلى معبود/ صنم، ثم انقلاب هذا الإذلال إلى اهتياج سادي وقاتل يسم الحب بـ"الوحشية". فالعشيقة عذراء ذات خطايا سبع ومنذورة للموت. ويعلن الشاعر بوضوح: أَنَا الْجُرْحُ وَالسِّكِّين! أَنَا الصَّفْعَةُ وَالْخَد! أَنَا الأَعْضَاءُ وَآلَةُ التَّعْذِيب، وَالضَّحِيَّةُ وَالْجَلاَّد! وفكر بودلير واضح في ربط الحب بالألم.وثمة ملاحظة في "سهام نارية" تقول بسخرية أليمة "ذات مرة، تم التساؤل أمامي عما يشكل أكبر متعة في الحب. أجاب أحدهم بصورة طبيعية: في الأخذ، - وآخر: في العطاء. - هذا قال: متعة الكبرياء! - وقال ذاك: شهوة المذلة! كل هؤلاء البذيئين كانوا يتكلمون كتقليد ليسوع المسيح. - في النهاية كان ثمة شخص طوباوي أكد أن أعظم متعة في الحب هي تأهيل مواطنين من أجل الوطن./ أما أنا فقلت: إن شهوة الحب الفريدة والسامية تكمن في اليقين بارتكاب الشر. - ويعرف الرجل والمرأة منذ الميلاد أن في الشر يكمن كل شهوة". ويرى سلام أن هذا الارتباط بين الحب والألم - المتعارض مع المفهوم المسيحي، ومع مثالية واحد من قبيل ڤيكتور هوغو- هو المسؤول عن اللوحات التي صدمت كثيراً بعض معاصريه. والتعارض، الذي يجعل من الكراهية الرفيق اللصيق للحب، والذي يقود العاشق إلى الإحساس بعاطفته كعبء لا يُحتَمل، يُغذِّي رغبةً لا تتحقق إلا في تخيل عقاب قاس بصورة سادية. فإلى هذه "الْمَجْنُونَة الَّتِي جُنِنْتُ بِهَا"، والتي يُسر لها "أَكْرَهُكِ بِقَدْرِ مَا أُحِبُّك!"، يعلن الشاعر: "هَكَذَا أُرِيدُ، ذَاتَ لَيْلَة،/ عِنْدَمَا تَدُقُّ سَاعَةُ الشَّهْوَة،/ أَنْ أَزْحَفَ بِلاَ صَوْتٍ، كَجَبَان،/ نَحْوَ كُنُوزِ جَسَدِك،/ لأُهَذِّبَ جَسَدَكِ الْمُبْتَهِج،/ لأَجْرَحَ صَدْرَكِ الْمُتَسَامِح،/ وَأَرْتَكِبَ فِي خَصْرِكِ الْمَذْهُول/ جُرْحًا كَبِيرًا وَغَائِرًا،/ وَعَبْرَ هَذِهِ الشِّفَاهِ الجَدِيدَة،/ الأَكْثَرَ صَخَبًا وَجَمَالاً،/ أَيَّتُهَا الْعُذُوبَةُ الْمُدَوِّخَة!/ أَبُثَّ فِيكِ سُمِّي، يَا أُخْتِي!" فـ"السم" رمز للسأم أو للكآبة، والرغبة لا تنكشف إلا في نزوع تدميري هو – بالتحديد - أحد أشكال الألم. وخارج القسوة، تكشف قصيدة "إلى تلك المبتهجة للغاية" مُقوماً آخر للروح البودليرية: السخط، لا كتعبير متفاقم عن استثارة مُعذَّبَة، بل شارة يأس ميتافيزيقي.ففي قصيدة "شهيدة"، يكشف المشهد الرئيسي التدخل الغريب والمفاجئ للراوي الذي يبدو، لحظة مساءلته للجثة، أنه يضاعف - في النقمة التي تعتريه على الافتراض الذي يصوغه - من الإيماءة القاتلة، المغيظة للزوج القاتل: وَالرَّجُلُ الْمُنْتَقِمُ الَّذِي لَم تَسْتَطِيعِي، وَأَنْتِ حَيَّة، أَنْ تُشْبِعِيهِ، رَغْمَ كُلِّ الْحُب، هَل أَشْبَعَ بِجَسَدِكِ الطَّيِّعِ الْهَامِد شَهْوَتَه الشَّاسِعَة؟ أَجِيبِي، أَيَّتُهَا الْجُثَّةُ الآثِمَة! وَمِن ضَفَائِرِكِ الْخَشِنَة وَهوَ يَرْفَعُكِ بِذِرَاعٍ مَحْمُوم، قُولِي لِي، أَيَّتُهَا الرَّأسُ الرَّهِيبَةُ، أَعَلَى أَسْنَانِكِ الْبَارِدَة أَلْصَقَ قُبُلاَتِ الْوَدَاعِ الأَخِيرَة؟ تتكشف النقمة هنا باعتبارها احتجاجاً ميتافيزيقياً على الفجوة بين لانهائية الشهوة ونهائية الجسد. وإذ يسترجع غضب العاشق، فإن الشاعر يكرر القتل خلال تأويله له، مؤكداً هنا أن رهان المشهد ليس سوى المأساوي الذي يتخلل كل حب حقيقي. ويوضح : تأسيس الحب - أو الشهوة - على الألم إنما يعني الارتباط بالموت: "الْفُجُورُ وَالْمَوْتُ فَتَاتَانِ مَحْبُوبَتَان". وهو ارتباط قديم، لكنه يتخذ- لدى بودلير- دلالةً مختلفة. فالارتباط بينهما- في العصر الرومانتيكي- يقوم على إدراك الموت باعتباره المعيار الوحيد الحقيقي للحب، واللانهائي. أما لدى بودلير، فالارتباط يقوم على أن الوعي العاشق يتجلَّى في نهائية الجسد المنذور للموت القادم. وتَصدر "حداثة" بودلير من هذا الشكل للوعي.وعلى نقيض المثالية الروحية للرومانتيكيين، فحداثة بودلير لا تكف عن تأكيد الواقع القاطع للموت الفيزيقي.وكما كتب بونفوا: "لقد اختار بودلير الموت"، باعتبار الموت أحد أشكال الوعي. وفي "رقصة جنائزية"، يمنح بودلير الخطاب إلى الموت، فيقرر الطريقة التي يقرن بها رؤيته. ويوحد الشاعر نفسه بالتمثال الرمزي، فاضحًا عمَى "القطيع" الذي "يَتَقَافَزُ وَيُمْعِنُ فِي الْبَهْجَةِ"، دون أن يرى "ثُقْبَ السَّقْفِ" الذي ينفذ من خلاله "بوق" ملاك الموت "كَفُوَّهَةِ بُنْدُقِيَّةٍ سَوْدَاء". لكن الموت- وبصورة مناقضة- هو موضوع حلم قلق باعتباره موقع فخ محتمَل. فإذا ما كان التحذير بنهائية الجسد يغير من الوعي الشعري، بجعله أكثر حساسيةً بصورة لانهائية، فسنجد - كتعويض لدي بودلير - التعبير عن عذاب أن الموت لن يكون سوى وهم، وأن الحياة ما بعد الموت لن تكون سوى ديمومة للحياة، سوى امتداد الانتظار الذي حُكِم به على الأحياء: كُنْتُ مَيِّتاً بِلاَ مُفَاجَأَة، وَالْفَجْرُ الرَّهِيب كَانَ يَلُفُّنِي.- وَمَاذَا! أَهَذَا كُلُّ شَيْء؟ كَانَت السِّتَارَةُ قَد رُفِعَت وَكُنْتُ مَا أَزَالُ أَنْتَظِر. حيث تتكشف قصيدة "حلم شخص فضولي" عن كابوس: ففيما وراء الموت "بلا مفاجأة" لن يكون سوى بداية "الْفَجْرُ الرَّهِيب" ليوم بلا نهاية. ولا شك أن النبرة التهكمية لهذه القصيدة تخفف من فظاظة الحالة. صحيح أن بودلير ليس أول من تناول هذه الفكرة - فهناك هايني وجوتييه - لكن ليس هناك من اتخذها بجدية بودلير، ولا أحد تأمل بعمق كبودلير هذه الفرضية بمثل هذا القلق: أَتُرِيدُونَ (كَرَمْزٍ وَاضِحٍ رَهِيب لِمَصِيرٍ بَالِغِ الْقَسْوَة!) أَنْ تَكْشِفُوا أَنَّ النَّوْمَ الْمَوْعُود لَيْسَ مَضْمُونًا حَتَّى فِي القَبْر؛ وَأَنَّ الْعَدَمَ خَائِنٌ لَنَا؛ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى الْمَوْت، يَخْدَعُنَا، وَأَنَّنَا دَائِمًا أَبَدًا رُبَّمَا سَيَكُونُ عَلَيْنَا، وَا أَسَفَاه! أَنْ نَحْرُثَ الأَرْضَ الْقَاسِيَة فِي بَلَدٍ مَا مَجْهُول وَنَغْرِسَ فِيهَا مِعْزَقَةً ثَقِيلَة تَحْتَ قَدَمِنَا الْعَارِيَةِ الدَّامِيَة؟ وبصورة مختلفة أيضًا، يتخذ الموت معنى فضاء آخر.وباعتباره أملاً كخلاصٍ ما، فإنه يتخذ ألوان الحلم: هُوَ مَجْدُ الآلِهَةِ، وَمَخْزَنُ الْغِلاَلِ الرُّوحِي، هُوَ كِيسُ نُقُودِ الْفَقِيرِ وَمَوْطِنُهُ الْقَدِيم، هُوَ الرُّوَاقُ الْمَفْتُوحُ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَجْهُولَة! وكملاذٍ أخير إزاء "المعرفة المريرة" التي يستمدها من الرحلة مَن لم يزُر الأرض إلاَّ ليشاهد فيها "الْمَشْهَدَ الْمُمِلَّ لِلْفُجْرِ الأَبَدِي"، ومعاناة قوة الزمن الساحقة، "الْعَدُوِّ الْيَقِظِ الْمُمِيت"، يتكشف الموت باعتباره الأداة الوحيدة لزعزعة النفس، والطريق الوحيد الذي يفضي إلى المجهول. والتساؤل المثير للإعجاب الذي يرمز للموت بقبطان سفينة الحياة يشير إلى أية درجة يُخفِق اجتياز الوجود في العثور على نظير موضوعي متوافق مع شهوة اللانهائي التي تسكن المتكلم: أَيُّهَا الْمَوْتُ، أَيُّهَا الْقُبْطَانُ الْعَجُوزُ، هُوَ الْوَقْت! فَلْتَرْفَعِ الْمِرْسَاة! هَذِهِ الْبِلاَدُ تُضْجِرُنَا، أَيُّهَا الْمَوْتُ! فَلْتُبْحِر! فَإِذَا مَا كَانَت السَّمَاءُ وَالْبَحْرُ سَوْدَاوَيْنِ كَالْحِبْر، فَقُلُوبُنَا الَّتِي تَعْرِفُهَا مَلِيئَةٌ بِالأَشِعَّة! فَلْتَسْكُب لَنَا سُمَّكَ لِيُنْعِشَنَا! فَنَحْنُ نُرِيدُ، وَهَذِهِ النَّارُ تُحْرِقُ عُقُولَنَا، أَنْ نَغُوصَ فِي قَاعِ الْهَاوِيَةِ، أَوِ الْجَحِيمِ، أَوِ السَّمَاءِ، مَا الْفَرْق؟ فِي قَاعِ الْمَجْهُولِ لِنَعْثُرَ عَلَى الْجَدِيد!
0 التعليقات:
إرسال تعليق