لا أظن، أن أحداً، شاهد الصورة الشخصية للشاعر الكبير بدر شاكر السياب المصاحبة لهذا المقال. وحتى لا أكون جازماً في الأمر، وضعت عن عمد كلمة (لا أظن) إذ ربما نشرها الشاعر الكبير في صحيفة أو مجلة لمرة واحدة، ثم اختفت أو لفها النسيان، ولا أعرف سبباً لذلك، فهي كما يرى القارئ أجمل صور السياب على قلة صوره المنشورة، إن كانت للرجل صور جميلة!
والذي يلاحظ الصحف والمجلات التي تناولت حياة السياب أو تناولت آثاره يجد أنها أعادت نشر الصور التي سبق نشرها وهي لم تتعد أصابع اليد الواحدة، حتى أصبحت مثل لازمة تؤشر للسياب، ولم يشذ عن هذه القاعدة حتى "موقع الشاعر بدر شاكر السياب" الذي أسسه بعض محبي شعره ودارسي أثاره على الإنترنت، ولهؤلاء أهدي صورته موضوعة المقال، لوضعها في موقع الشاعر.
وأذكر أنني، قرأت يوماً دراسة عن السياب أشار فيها كاتبها إلى أن الشاعر الكبير كان يعاني من وضع نفسي، لقامته الجسدية المائلة للقصر ونحوله المفرط بسب إصابة لم يكتمل شفاؤها هي التدرن الرئوي (السل) الذي صاحبه لفترة طويلة من عمره الغض، ولشعوره بأنه دميم ما جعله يبتعد عن الكاميرات.
ويبدو أن في هذا القول بعض الصحة، وابني هذا الافتراض على قول سمعته من الشاعر الكويتي علي السبتي الذي التقيته في العام 1981 في الكويت حيث أوفدني وقتها الشاعر حميد سعيد عند رئاسته لتحريرصحيفة "الثورة"، وكنت أحد صحفييها، وكان توجيه رئيس التحرير الالتقاء بالشخصيات الثقافية هناك فقط. وقد التقيت بعدد كبير منهم، كان من بينهم الشاعر السبتي، وفي ثنايا الحديث معه، عرجنا على الشاعر السياب إذ من المعروف أن الشاعر الكويتي، احتضن السياب في محنة مرضه في سنتي 1963 ـ 1964 ولازمه، أخاً وصديقاً وراعياً حتى وفاته في المستشفى الأميري في الكويت. وقد حدثني بدقة عن الأيام الثلاثة التي سبقت لفظ أنفاس السياب، وهذا الحديث مكانه في موضوع آخر في لاحق الأيام.
وأعود إلى حيث إشارتي قبل قليل إلى عزوف الشاعر السياب عن التقاط الصور والابتعاد عن المناسبات التي تكثر فيها لحظات التوثيق، وهنا يعطيني الشاعر الكويتي علي السبتي سبباً، لم أطلع عليه قبل أن التقيه، حيث ذكر معلومة ربما لا يعرفها حتى كتابة هذه السطور، أقرب المقربين إلى السياب لحراجة البوح بها أو الإعلان عنها تقول "المعلومة" إن السياب، كان في سنتيه الأولى والثانية طالباً في قسم "الأدب العربي" في دار المعلمين العالية، لكنه انتقل إلى دراسة اللغة الإنكليزية في الدار ذاتها، ليس حباً في تعلم اللغة الأجنبية، بل هرباً من حادثة ثقيلة مرت عليه وهي رفض إحدى زميلاته الطالبات التقاط صورة جماعية لطلبة السنة الثانية، حيث تصادف وقوفها إلى جانبه وهي الطالبة الجميلة، فارهة الطول ممشوقة القوام، وهو الشاب الفاقد لكل أشكال الوسامة.
وقد أطلعني مضيفي الشاعر علي السبتي على اسم زميلة السياب مؤكدا أن صديقه (بدر) أئتمنه على اسم تلك الزميلة، أثناء حواراتهما الكثيرة في المستشفى، طالباً الاحتفاظ به إلى ما يشاء، وفعلاً ظل الاسم حبيس ذاكرته 18 عاماً قبل أن يطلعني عليه. وقد حاولت بعد عودتي إلى بغداد، دون جدوى، معرفة عنوان الإنسانة التي تسببت بترك السياب دراسة اللغة العربية والتوجه صوب اللغة الإنكليزية، حيث تعددت روايات إقامتها، فأصبت بالملل، رغم قناعتي بأن الالتقاء بها سبق صحفي بارز يضيف رؤى جديدة عن صفحات حياتية بقيت مطوية في سفر السياب، لكن ليس كل ما يتمناه الصحفي ... يدركه!
لقد أصبحت حادثة رفض تلك الطالبة التصوير مع السياب، مثار تندر الطلبة. وحاول السياب التغطية عليها بالإكثار من شراء الملابس الراقية والتأنق واستعمال العطور المستوردة، غير آبه بالأعباء الاقتصادية الصعبة التي كان يمر بها، فقد كان مصروفه يأتيه من جده "عبدالجبار السياب"، بعد أن تزوج والده "شاكر" من امرأة أخرى وانتقل إلى مكان بعيد عن عائلته الأولى، فتكفله جده، لكن حالة نفور زميلته منه أخذت مداها النفسي عند السياب، فكان قراره بالانتقال إلى قسم اللغة الإنكليزية.
إن الشعر وحب الظهور، صنوان لا يفترقان، إلا في حالة السياب، حيث قصمت حكاية رفض زميلته التصوير، نفسيته، لكونه تصادف وقوفه إلى جانبها، وأضافت إليها نتوءات مرّة وثقيلة، جعلته سريع الغضب، متقلب المزاج، وهو المكتوي أصلاً بمحطات مأساوية منذ أن وعى الدنيا في العام 1926 حتى مغادرته الحياة يوم 24 يناير/كانون ثاني 1964 على يد صديقه وكاتم أسراره علي السبتي، في ميتة سبقتها آلام مبرحة تمثلت بإصابته بمرض السل ثم الاضطراب العصبي في عموده الفقري الذي تسبب في فقدان الشعور بساقيه.
ويقول صديقه الذي تكفل بعلاجه الشاعر علي السبتي إنه حاول التحايل عليه لتصويره في أثناء صراعه مع المرض فلم يفلح سوى مرة واحدة حيث التقط له صوراً وهو في فراش المرض بحضور عائلته، وقد أراني تلك الصور، لكنه لم يسمح لي باستنساخها رغم محاولاتي العديدة، وإلحاح عامر الجميلي (المستشار الصحفي العراقي آنذاك في السفارة العراقية بالكويت)، الذي كان حاضراً معي، حيث قال إن رغبة السياب كانت أن لا يشاهده أحد على سرير المرض. وفعلاً، كانت صوراً مؤلمة وكان السياب في هزال مريع، وكأنك ترى هيكلا عضمياً لطفل في الخامسة من العمر!
ولم يخف الشاعر الكويتي وهو يحدثني عن معاناة السياب في مرضه، ملاحظاته من قوة شكيمة السياب الممزوجة بمرارة تساؤلات ترقى إلى عتاب غير مستحب، كان يوجهها وهو ينظر إلى سقف الغرفة في مشفاه، وكأنه يناجي الخالق العظيم بعبارات مبهمة، معناها مدفون في صدر السياب وظاهرها حركة شفاه خجولة!
وأتذكر، هنا، مقطعاً من قصيدة "دار جدي" حيث يقول السياب:
أهكذا السنون تذهب؟
أهكذا الحياة تنضب؟
أحس أنني أذوب، أتعب
أموت كالشجر
وأعود إلى الصورة التي بدأت الحديث عنها، وكيف عثرت عليها. كان ذلك قبل أربعة عقود ونيف، وتحديدًا في العام 1968 وذلك أثناء عملي في صحيفة "الحرية" البغدادية، حيث وجدتها على شكل (كليشه) في إحدى غرف الجريدة المعتمة والملأى بالرطوبة، و(الكليشه) هي نقل الصورة الفوتوغرافية إلى صورة بالحجم المراد، معجونة بمادة "الزنك"، وقد وجدتها بين أكداس من (الكليشهات) كليشهات أخرى ضمها كيس ورقي عليه عبارة (زنكغراف النحاس)، وهذا يعني أنها كانت مهيئة للطبع حيث ثبتت على الخشب، لكني رغم الفترة الطويلة التي مضت على تلك الكليشه، لم أجد عليها آثار الدهان الذي يرافق عادة عملية دوران ماكينة الطبع سيما في المكائن اليدوية التي كانت سائدة آنذاك، فبقيت قطعة الخشب التي لصقت عليها الكليشه نظيفة، عدا ما علق عليها من غبار السنين.
ويدرك المختصون في الطباعة والمخضرمون في الصحافة ما أقوله من خلال (النقاط) الصغيرة جدا التي ترافق الصور الزنكغرافية، نتيجة الحفر بمادة (الزنك) لإظهارها.
ووجدت أيضا، مسوَّدات بخط الشاعر في تلك الغرفة، تناولتُ بعضها في مقالة سابقة بعنوان "السياب نجح في الشعر ورسب في المقالة"، وفي وقت آخر سأتناول مسودات أخرى بخط السياب، كان كتبها ربما في العام 1955 وهي عبارة عن أوراق حملت تشطيبات كثيرة، رفع فيها السياب جملة هنا ووضعها هناك، ثم أعادها إلى وضعها السابق، وهكذا حتى ضاعت فيها مقدمتها عن وسطها. هي مقالة دافع فيها السياب عن نفسه أمام ناقديه، وهي تستحق وقفة عند دارسي "السياب".
كانت تلك الغرفة الرطبة في جريدة "الحرية" منجماً ثقافياً لم أعِ أهميته إلا بعد حين، والشذرات التي انشرها بين مدة وأخرى هي من معين تلك الصحيفة العريقة.
زيد الحلي
zaidalhilly@yahoo.com
0 التعليقات:
إرسال تعليق