الخميس، 19 يناير 2012

غازات ضاحكة لغز تتعري فيه اللغة



القاهرة ـ يلج الشاعر المصري شريف الشافعي عبر ديوانه الجديد "غازات ضاحكة" عوالم القصيدة، المكتوبة بلسان روبوت متمرد في ما يفعله وما يقوله، متلمِّسًا مشاهد الحياة ومفردات العصر مباشرة، حيث الانفتاح على كل شيء، والامتزاج العضوي به، ومحاولة تفجيره فنيًّا، في غياب تام لفكرة الانتقاء، فالنص طقس مشحون، تتعرى فيه اللغة من مجازها، والحالة الشعرية من ذهنيتها، لتبقى قصيدة النثر مجردة إلا من الشعرية، تفضح الأعماق بجد رغم البساطة، ولا تشوبها الزوائد رغم طول الصفحات.

بلا ضجيج تتخلق النبضات الطبيعية، ودون تخطيط تتدفق فيوضات الصفات الإنسانية الغائبة، التي يفتش عنها الإنسان الغائب في عالميه: الواقعي والافتراضي، وهذه الصفات تكتنز ما تكتنزه من طزاجة وبدائية ودهشة وصدق.

يقول في أحد المقاطع: "أعطيني ورقةً بيضاءَ/ سأرسمُ صورتكِ بأمانةٍ/ وستبقى الورقةُ بيضاءَ".

حمل ظهر الغلاف نصًّا يقول: "لستُ صاحبَ مواهب استثنائيّةٍ/ صدِّقوني/ أتدرون: كيف عرفتُ/ أن هذه اللوحةَ لوحةٌ زائفةٌ؟/ لأنها ببساطةٍ لَمْ تكتشفْ/ أنني لحظة نظري إليها/ كنتُ إنسانًا زائفًا".

وجاءت لوحة الغلاف، وهي لطفلة في العاشرة (مي شريف)، في السياق ذاته، حيث يضحك وجه بارد (يتخذ هيئة شاشة كومبيوتر) ضحكة آلية مصطنعة، وذلك في مواجهة الضحكة الإنسانية الصافية (الابتسامة الأورجانيك، بتعبير إحدى القصائد).

اشتمل الغلاف أيضًا، وهو للفنان المصري محمد عمار، على فقاعات متطايرة من الغاز المعروف بالغاز المضحك أو غاز الضحك (أكسيد النيتروز)، وهو غاز يؤدي استنشاقه إلى انقباض عضلات الفكين، وبقاء الفم مفتوحًا كأنه يضحك (دون بهجة حقيقية بطبيعة الحال)، وكان يستخدم في حفلات الأثير المرحة (نسيان الألم)، والآن صار يستخدم في التخدير، خصوصًا في جراحات الأسنان والفم.

يتحرر الآلي في "غازات ضاحكة" من سطوة نيرمانا (أيقونة الجزء الأول: البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية)، منخرطًا في حالات إنسانية متتالية ومتشابكة في آن، يتخلص فيها من "تنكره" (تنكره في ما يحب، وفي ما لا يحب). ويبدو فعل الكتابة فعلاً حيويًّا يصاحب الحركة الانسيابية، وكأنه فعل يحدث من تلقاء ذاته، فالكتابة عملية (تمثيل ضوئي)، تتواصل نهارًا وليلاً، في اليقظة والأحلام والكوابيس، هدفها الأساسي الاستمتاع الشخصي، ولا يمنع ذلك الاستمتاع الفكرة البسيطة من أن تتطور إلى رؤية كلية شاملة، وفلسفة شفيفة تغلف النص.

أما (التثوير الجمالي) في القصيدة، الذي يُثبت ذاته بذاته أيضًا دون تكلف، فهو بمثابة إطلاق (فيروسات ثائرة)، تخلخل أنظمة التشغيل الإدراكية، وثوابت التلقي المألوفة، فالقصيدة حقل عفوي أخضر، يطرح ثمارًا جديدة، وهو غير مقطوع الصلة بالحقول كلها، بما فيها: السرد، المسرح، السينما، الكيمياء، الفيزياء، الأحياء، الرياضيات، الفلك، الفلسفة، الصيدلة، وغيرها.

الحالة الأولى، التي يخوضها الشاعر ويكتبها، هي حالة الألم (معسكر السوس في ضرس العقل الإلكتروني)، وتؤدي إلى محاولة البحث عن مسكّن أو علاج. تليها حالة التخدير أو استنشاق الغازات، بما فيها من ابتسامات بلاستيكية (بلون القطن الطبي)، وتواصل باهت مع الآخرين (من الزوار المعقّمين). فكما أن الألم لا يمكن محوه بالمعدات والتجهيزات (البلاغات الجاهزة)، فإن السعادة كذلك لا يمكن جلبها بمبتكرات العصر المادية (شواهد تقدم الإنسان).































شريف الشافعي


ثم تأتي حالة غيبوبة الآلي، وفيها تتضح هلوسات وأحلام الإنسان الطامح إلى التخلص من برامج التحكم، والارتداد إلى صورته الطينية، والانطلاق الحر نحو جاذبية الأرض، والتحليق في السماء. ثم حالة الموت (الموت في الهواء الطلق: هواء طلق)، التي تجسد انتصارًا لإرادة الحياة الحقيقية لدى الإنسان الحقيقي على قوة أجهزة الإعاشة الجبرية للإنسان الآلي في المستشفى.

ويبقى شعاع الأمل يداعب المشهد، حيث تنظر (المرآة المتهشمة) إلى طيف الإنسان الحقيقي، فإذا بها (ترى كلَّ شيءٍ، ويعود العالَمُ). ثم يأتي المقطع الختامي بحصاد اكتمال رحلة الثورة والتمرد، حيث فهم كيمياء الوجود، وصيد الجوهر، وامتلاك الماهيّة. يقول: "عذرًا قهوة الصّباح/ موعدي اليومَ مع رشفةٍ عميقةٍ/ من الصّباحِ نفسهِ".

كان الجزء الأول من "إنسان آلي" قد صدر في ثلاث طبعات عربية في مصر وسوريا ولبنان (ما بين 2008 و2010)، كما صدر في صيغة إلكترونية عن مجلة "الكلمة" اللندنية (العدد 55/ نوفمبر 2011). وقد اختير للتدريس في جامعة "آيوا" الأميركية وجامعة الكويت باعتباره (تمثيلاً لقصيدة النثر الحيوية، وانخراطًا واعيًا للشعر في الفضاء الرقمي). للشافعي (40 عامًا) أربعة دواوين سابقة افتتحها عام 1994 بديوانه "بينهما يصدأ الوقت"، وكتاب بحثي بعنوان "نجيب محفوظ: المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع" (الدار المصرية اللبنانية).

ومن مقاطع "غازات ضاحكة":

قلتُ مستنكرًا:

"مَنْ يقدرُ أن يطفئَ الشمسَ؟"

قالت:

"العيونُ"

***

العصفورُ،

الذي بَلَّلَهُ المطرُ

صار أخَفَّ وأجملَ

من شدةِ نشاطهِ،

حلّقَ العصفورُ في السماءِ

نفضَ ريشَهُ المبْتَلَّ ببهجةٍ

ليُذيقَ السحابَ

حلاوةَ استقبالِ المطرِ

***

أنْ أوقظَ وردةً واحدةً

خيرٌ من أن أنامَ في بستانٍ

***

كثيرةٌ هي الخرائطُ

فأين العالمُ؟

***

الغريبُ،

الذي يعبرُ الطريقَ

ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ

ولا كلبٍ مدرّبٍ /

هو بحاجةٍ

إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ

تتسعُ لغرباء

صدر الديوان عن دار الغاوون للنشر والتوزيع في بيروت في 572 صفحة من القطع الصغير، ويشتمل على 532 مقطعًا مختزلاً.

0 التعليقات:

إرسال تعليق