تابعت بعض التصريحات التي أدلي بها وزير الثقافة الجديد الدكتور عماد أبو غازي ، ولفتني فيها كما لفت غيري ، دعوته الدءوبة إلي ضرورة تسليم شؤون الحكم لجيل جديد من الشباب عقب انتهاء الفترة الانتقالية .
لم تكن هذه التصريحات غريبة بالنسبة لي علي الأقل . فقد كنت أتحدث إلي الرجل قبل توزيره بأسبوع تقريبا ، عقب مقال كتبته في نفس المكان أتمني فيه أن يحل أبو غازي محل "رجل الدعاية" محمد الصاوي ، الذي تولي الوزارة في غفلة من الزمن ، بدعم مريب من نائب رئيس الوزراء الجديد يحيي الجمل .
كان رأي أبو غازي أنه وجيله يجب أن ينتحيا جانبا تاركين الفرصة للجيل الجديد . وقد كان لومه قاسيا للأجيال الأسبق باعتبارها قضت علي كل فرص جيل الوسط ، الذي ينتمي إليه ، في الوجود .
من جانبي كنت ومازلت أري حديث أبي غازي يحمل الكثير من التطهر ، في وقت كنت ألمح فيه تخوفه من تعاظم حجم المسئولية في لحظة دقيقة من التاريخ المصري ، و كنت أتمنى أن يكون حديثه ذاك رجع للصوت الجديد الضاغط وصاحب الحق في الوجود بعد سنوات من الإزاحة لحساب أهل الثقة من أنصاف وأرباع المثقفين فضلا عن جيوش الانتهازيين ، لكن ذلك يبدو أنه كان ضربا من الخيال.
ورغم ذلك فإن حملات التأييد لأبي غازي لم تفتر بعد . فقد بدا اختياره يمثل ، لأول مرة ، استجابة لحاجة الرأي العام داخل الفضاء الثقافي في مصر علي الأقل . ومن ثم فهو لا يمثل سلطة رسمية قدر تمثيله لفضاء عام يتشكل من نخبة لا يمكن التهوين من حجمها أو قدرها ، وبالتالي فإن موقف هذه النخبة ، في خطوطه العامة ، يعد مرجعية إلزامية علي وزير الثقافة الجديد باعتبار أن القبول به من جموع المحتجين علي الصاوي يعني توافر قدر من الشرعية في توزيره . وأظن أنه من دون هذه الشرعية لم ولن يمكنه أن يحافظ علي هذا الإجماع ، فقد انتهي الزمن الذي كانت تتحدث فيه السلطة باعتبارها قوة تفويض كهنوتية ، باعتقاد أنها تعبر عن أغلبية صامتة وجاهلة لابد أن تتلقي هبة حكامها بالمزيد من الامتثال و التقديس .
غير أن واقع الحال يدفعني ، كما يدفع غيري ، للتساؤل عن معزي الزيارة الأولي لأبي غازي بعد أدائه لليمين الدستورية ، حيث توجه من فوره ، حسبما نشرت بعض الصحف ، إلي الهيئة العامة لقصور الثقافة ، فيما بدا الأمر كنوع من الدعم لرئيسها أحمد مجاهد ، وهو الأمر الذي تم تتويجه بعد ذلك بعدة أيام ،حيث عينه الوزير رئيسا للهيئة المصرية العامة للكتاب ، وعين السيد سعد عبد الرحمن خلفا له في هيئة قصور الثقافة .
ومن حيث أن الواقع الثقافي لا يعرف عن عبد الرحمن سوي كونه شاعرا لا ينشغل كثيرا بأمر الشعر وموظفا كبيرا في الهيئة التي تسلم رئاستها ، فلا مكان إذن لتقييمه لاسيما وأنه لم يقدم شيئا يمكن مراجعته وإن ظل قرار تعيينه مدهشا وغريبا . فمن ناحية نعتقد أن الهيئة تحتاج إلي مثقف ذا وزن يمثل أملا وخيالا جديدين تلبية للزخم الثوري واستجابة لحاجة الواقع الثقافي للتغيير العميق ، ومن ناحية أخري فإن الأمر كله يناقض تصريحات الوزير عن ضرورة الاستعانة بالشباب بينما الرجل يبدو علي مشارف الستين من عمره أو ربما بلغها بالفعل .
ومع ذلك فإن الملاحظات الأولي لا تتعلق باعتراض يخص عبد الرحمن أو مجاهد ، قدر تعلقها بفهم أبي غازي لدوره . فإذا كان الرجل يتعامل مع قيادات الوزارة الراهنة باعتبارها قدرا مقدورا ، فقد أخطأ خطأ جسيما يعني أن وجوده طيلة الفترة الانتقالية سيمثل نوعا من التكريس للأوضاع القائمة وهو أمر ، فضلا عن عدم قبوله ، لن يؤدي إلا لمزيد من تعظيم أخطاء الماضي عبر الاعتماد علي عناصر يرجح الواقع أنها تمثل زمن أهل الثقة وليس أهل الكفاءة . وليس خافيا تورط عديد من القيادات في الوزارة تورطا سافرا في دعم لجنة السياسات ورموز الفساد وعلي رأسهم أحمد مجاهد ، الذي أدهشني ، بتحوله الكامل لتأييد الثورة بعد أن كان أحد أدوات الترويج لجمال مبارك ولجنته البائدة ، بنفس القدر الذي أدهشني به أن تكون أولي زيارات الوزير الجديد إلي مكتبه ، أقصد مجاهد . فلا يمكن للمرء أن يفهم مغزى زيارة ذات طابع سياسي بأبعد أو أدني من هذا ؛ كونها تعضيدا في غير محله ، يعكس دعما كاملا لسياسات هيئة قصور الثقافة تحت رئاسة مجاهد الذي مافتئ أن تم نقله رئيسا لهيئة الكتاب ، وربما يعكس رد الفعل الأولي للعاملين بالهيئة التفسير الأدق لسيرة مجاهد غير العطرة .
وإذا كانت هذه القراءة تقع موقع الصواب فإن ثمة مشكلة لن تعني أكثر من بقاء فساد وزارة الثقافة في أضابير مسئوليها انتظارا لفارس يأتي من المستقبل ، لكنه علي الأرجح لن يكون أبو غازي ، في حال مواصلته موقفه السلبي تجاه قيادات الوزارة ، وسوف أحاول هنا إيجاز بعض الملاحظات علي وضع بعض هذه الهيئات التي يجب أن تطالها ، فورا ، يد التغيير.
في البداية أود أن ألفت النظر إلي البركان الذي تتربع علي فوهته هيئة قصور الثقافة ، و المتابع لأداء الهيئة سيتأكد أن الفساد وحده هو من يديرها ، وإلا كيف يمكننا أن نفسر الآتي :
أولا : فتح بيوت وقصور الثقافة في كافة أنحاء الجمهورية لجمعية جيل المستقبل ولجنة السياسات طيلة السنوات الماضية للترويج لمشروع التوريث ، وهو مشروع كان يحظي بدعم وزير الإعلام آنذاك أنس الفقي وكذلك كان يحظي بالدعم الكامل للجنة السياسات . وعلي السيد أحمد مجاهد وعلي الجهات الرقابية أيضا أن يدلانا علي مصدر تمويل هذه الأنشطة والمبالغ المهدرة فيها ، وهل كانت جزءا من ميزانية الهيئة أم أنها وردت من مصادر أخري و ما هي طبيعة هذه المصادر ، وهل كان يليق بالهيئة أن تسخر مواردها وطاقات العاملين بها لمثل هذه الأنشطة ذات الطبيعة المشبوهة والمأجورة .
ثانيا : تسليم مجلة الثقافة الجديدة ، بعد رحيل المثقف الكبير سامي خشبة ، إلي الصحافي طارق الطاهر. ومع تقديري الشديد للطاهر علي الصعيد الشخصي ، إلا أن التساؤل هنا يتعلق بمدي جدارته بمثل هذا الموقع في ظل وجود عشرات بل مئات من المثقفين المختصين . فهل كان ذلك يعني أن مجاهد كان ينظر للطاهر علي أنه كفاءة نادرة ، أم كان ذلك ثمنا لتأمين نافذة مؤثرة ومخيفة هي جريدة أخبار الأدب التي كان ومازال طارق الطاهر أحد أعمدتها ؟
الأكثر إدهاشا أن يسلم مجاهد المجلة نفسها للصحافي عمر رضا بعد استقالة الطاهر اعتراضا علي طريقة مجاهد في التعامل معه ، فهل خلت مصر من الكفاءات المثقفة والمفكرة ، حتى تستمر هذه المهزلة ؟ !
ثالثا : ما معني إسناد مسؤولية الموقع الإلكتروني للهيئة لصحافي من جريدة الجمهورية هو يسري السيد براتب يثير حفيظة العاملين بالهيئة ، وهو أمر لابد أن يكون موضع مراجعة . فهل خلت الهيئة من الكوادر القادرة علي تولي هذا الأمر . وإذا لم يكن يوجد مثل هذا الكادر فما الذي كان يفعله أحمد مجاهد طيلة السنوات الماضية ، و ما هو إذن مردود الدورات التدريبية التي صدعت رؤوس العاملين ، والتي أنفقت عليها الهيئة عشرات الآلاف ، ألم تنجح كل هذه الدورات التدريبية في خلق عدد من الكوادر الصالحة لإدارة الموقع الإليكتروني للهيئة ، أم أن استجلاب الصحافيين تقبع خلفه أهداف أخري ؟! ولماذا الصحافيون بالذات ؟
رابعا : علي الدكتور عماد أبو غازي أن يطلب تقريرا من لجنة محايدة من خارج الوزارة عن مشروع النشر الإقليمي ليتأكد له حجم الفساد الذي يحوطه من كل جانب .
فمعلوماتي أن المئات من أدباء مصر في الأقاليم يرون أن المشروع بشكله الحالي يتعامل معهم ككتلة سياسة يجب احتوائها بمزيد من الرشاوى المادية والمعنوية . من هنا فإن مشروع النشر لا يقيم أدني اعتبار لمعيار القيمة ومن ثم اختلط حابل الفن بنابله ، وضاعت الأعمال الرفيعة والموهوبة لهؤلاء الأدباء وسط ركام من الأعمال الضعيفة والمتهافتة ، لأن الهدف الأساسي لم يكن هو الكشف عن المواهب العميقة والمتجذرة بقدر ما كان بحثا عن طريقة مثلي لإسكات الجماعة الثقافية في كافة أقاليم مصر . أيضا علي الدكتور أبو غازي أن يطلب قوائم بأسماء لجان القراءة التي ترشح هذه الأعمال للنشر ، ولماذا هي ثابتة لا تتغير ، هل لأنها تنفذ التعليمات الرقابية بصرامة ، أم لأنها تشجع علي تعظيم سياسة ضرب جيد الفن برديئه ، أم أن هناك أسبابا أخري ؟
خامسا : الأمر نفسه ينطبق علي مؤتمرات الهيئة بما فيها مؤتمر أدباء مصر . وقد ساء حظي وحضرت فعاليات الدورة قبل الماضية التي انعقدت في محافظة الإسكندرية . كان المؤتمر يمثل فضيحة ثقافية بكل المعاني ، و كان الشغل الشاغل لرئيس الهيئة هو كيفية إرضاء الصحفيين بتمييزهم علي بقية الضيوف بطرق شديدة الفجاجة أساءت لكل الحضور وكان بينهم رموز مؤثرة آلمتها كثيرا تلك الإهانات . ويبدو أن مجاهد كغيره من مسئولين كثر مروا علي وزارة الثقافة ، ففعاليات أي مؤتمر في نظر هؤلاء تنجح فقط عندما يقول الإعلام أنها نجحت بغض النظر عن مدي مطابقة ذلك للحقيقة .
من هنا فإن مجاهد ، في رأيي ، لم يكن ليستحق زيارة تعضيد من وزير الثقافة الجديد ، بل إن ما يستحقه فعلا هو قرار إقالة ، مع إحالته للنائب العام .
وأعتقد أن أبي غازي يعلم أن مجاهد أتي إلي الهيئة باعتباره واحدا من أهل الثقة وليس كواحد من أهل الكفاءة ، وليس عندي أبلغ من تعليق الدكتور محمود إسماعيل الذي كان أستاذا لمجاهد في جامعة عين شمس عندما قال موجها حديثه لمسئولي وزارة الثقافة : سنترك لكم مجاهد ، علي الأقل سنستريح من التقارير التي دأب علي كتابتها في زملائه منذ أن كان طالبا حتى أصبح أستاذا !!
سادسا :الأمر نفسه ينطبق علي الهيئة المصرية العامة للكتاب التي كان يتولي أمرها الدكتور صابر عرب ونائبه حلمي النمنم رغم أن الأول لازال رئيسا للهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية . والدكتور عماد أبو غازي يعلم حجم التردي الذي وصلت إليه الهيئة بعد اختصارها في مشروع مكتبة الأسرة ، وبعد التردي الذي وصلت إليه تقنية صناعة الكتاب في مصر بفضل الفساد الذي عشش في أضابير الهيئة منذ عهد سمير سرحان . فظني أن دور الهيئة أكبر وأعمق من مشروع مكتبة الأسرة الذي قضي علي فرص تقديم الأجيال الجديدة لحساب إعادة إنتاج الماضي ، رغم أهمية العديد من الإصدارات التي أعاد المشروع طرحها للقراء ، لكن مصر ليست الماضي وحده . لذلك أقترح عليه أن تستقل إدارة مشروع مكتبة الأسرة عن هيئة الكتاب ، حتى تعود الهيئة لدورها ، ويجب أن يكون علي رأس أولويات أبو غازي تعيين رئيس جديد للهيئة ، وإعادة النظر كلية في إدارة النشر بها بعد أن تم تدميرها علي يد أهل الثقة الذين تولوا أمرها عبر السنوات العشر الماضية ، وبعد أن انتهي أمرها ،بكل أسف ، إلي أحمد مجاهد .
سابعا : كذلك لابد من إعادة النظر في كل المجلات التي تصدرها الهيئة وعلي رأسها مجلة إبداع التي يترأسها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ، وهي أولي المجلات التي تستحق قرارا فوريا بإيقافها عن الصدور .
فقد خاض حجازي معركة طويلة بمجلته امتدت ست عشرة سنة لصالح النظام البائد يحارب من أسماهم بالظلاميين . وهي معركة يعلم القاصي والداني أنها كانت مدفوعة الأجر من أجهزة الدولة الرسمية وكان جهاز أمن الدولة علي رأس هذه الأجهزة .
ولست بطبيعة الحال أقف في طابور السلفيين ، لكن مثل هذه المعركة كان علي حجازي أن يخوضها لصالح التعدد والديمقراطية وليس لصالح تعميق ديكتاتورية النظام الفاشي الذي حكمنا ثلاثين سنة بتواطؤ مثقفي السلطان وعلي رأسهم أحمد عبد المعطي حجازي .
إن الثقافة المصرية تفتقر إلي مجلات ثقافية تعبر عن لحظتنا الراهنة التي سيعجز حجازي وغيره عن مطاولتها بكل تأكيد ، والأمر نفسه ينطبق علي الكثير من مجلات الهيئة .
ثامنا : حل جميع لجان المجلس الأعلى للثقافة بما في ذلك لجنته العليا وإعادة تشكيل جميع هذه اللجان بما يتواءم مع المرحلة الجديدة ، بهدف الدفع بأكبر عدد ممكن من الأجيال الجديدة من الباحثين النابهين والمبدعين المجيدين والتخلص من الأصنام التي دفعت حياتنا إلي جحيم التكلس والموت السريري ، وأظن أن تشكيل لجنة الشعر خير دليل علي فساد تشكيل هذه اللجان ، وهي أولي اللجان التي يجب أن يصدر قرار بحلها ، ولا أظن بقية اللجان بأحسن حال .
تاسعا : إعادة النظر في أنشطة مراكز الإبداع ومن يديرونها ، وعلي رأس هذه المراكز "بيت الشعر " . وقد كان الوزير الجديد عضوا بمجلس أمناء البيت وسبق له أن أقر بحجم العراقيل التي يضعها مجلس الأمناء برئاسة أحمد عبد المعطي حجازي في طريق الأجيال الجديدة . ويعلم أن استقالتي من مجلس أمناء البيت كانت بسبب من هذه الممارسات الرديئة المتسمة بالكثير من التسلط والفساد .
أظن هذه الإصلاحات أكبر من كونها مجرد ملاحظات ، وأعتقد أن جدارة أبي غازي بموقعه لن تتأكد لدي العامة والخاصة إلا بوضع هذه الملاحظات موضع التنفيذ الفوري دون تردد أو إبطاء ، وإلا سيتحرك المثقفون المصريون لينجزوا هذه الإصلاحات الحتمية بأنفسهم ، فالطريق لم تعد بهيمة علي أحد .
0 التعليقات:
إرسال تعليق