نعم هناك تأشيرة يمكن أن تقود صاحبها المسئول إلي السجن".
محمد السيد عيد -صاحب الجملة السابقة- ترقي السلّم من بدايته، إلي أن وصل لآخر السلم الوظيفي في الدولة وهو "وكيل أول وزارة". وحينما يقرر ذلك يقرره من واقع خبرة عميقة.
طرح موضوع التأشيرات في هذا التوقيت له ما يبرره، فبعد حبس محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق علي ذمة التحقيقات الخاصة بسرقة لوحة زهرة الخشخاش من متحف محمود خليل اندلعت حرب التأشيرات..
محامي شعلان قدّم إلي النيابة حافظة مستندات تؤكد أنه أرسل مكاتبات إلي فاروق عبد السلام مشرف مكتب وزير الثقافة يطلب فيها توفير اعتمادات مالية لتأمين المتاحف الفنية ولم يتلق استجابة منذ 2008..
المستندات تؤكد أيضاً أنّ شعلان حذّر من انهيار أنظمة المراقبة والإنذار والتكييف وطلب في الموازنة المقترحة لسنة (2008/2009) 134 مليون جنيه لتطوير الأنظمة الأمنية، لكن الدولة لم توفر سوي 85 مليوناً، كما طلب في أكتوبر 2008 توفير 40 مليوناً لتطوير الأنظمة الأمنية لكنّ وزارة التنمية الاقتصادية لم تخصص لذلك البند سوي نصف مليون فقط، وبدوره قدم وزير الثقافة عندما أدلي بأقواله في النيابة مستندات تدين محسن.
إلي أي حد -إذن- يمكن أن تسهم تأشيرات شعلان في تبرئة ساحته أو أن تدينه مستندات الوزير؟
المسألة أكبر من تأشيرة. هذا ما يقرره الروائي محمد البساطي -الذي كان موظفاً كبيراً لدي الجهاز المركزي للمحاسبات- : "هناك أسئلة كثيرة تثور هنا. هل اطّلع فاروق حسني علي المكاتبات أم لا؟! هل طلب شعلان الاعتمادات في الوقت المناسب أم لا؟! الأخطر.. أن حسني أعطي لشعلان تفويض وزير فيما يخص عمليات الإصلاح والترميم ماعدا إغلاق المتحف الذي جعله من اختصاصه هو فقط".
هذا يعني أن ثمة تأشيرة يمكنها أن تجعل المسئول (غير مسئول) أمام القانون، وتجبّ التأشيرات التي تليها..
وهذا يعني أيضاً أنّ مسألة اطّلاع المسئول علي المكاتبات واستلامها قد تكون غير مفيدة حتي ولو تأكد وصولها. يقول محمد السيد عيد: "هناك سجلات، الخطاب يخرج من مكتب المسئول من خلال سجلّ الصادر، ويستلمه مكتب المسئول الآخر من خلال سجل الوارد، ويكون هناك توقيع بالاستلام، توقيع يثبت أنّ المرسل قد قال شيئاَ معيناً، وهو إما مسئول عن هذا الشيء، أو يخلي مسئوليته منه". علي أنّ عيد بعكس البساطي يُعطي أهمية للمكاتبات أمام النيابة: "الأصل في المسائل القانونية تقديم المستندات، أما الكلام الشفوي فلا يُعتدّ به، المستندات عليها توقيعات تُحدد المسئولية بدقة".
الإثنان، البساطي وعيد، يتفقان علي أهمية تفويض الوزير. يقول الأخير: "تفويض الوزير تفويض سلطة، وطالما أنّ الشخص لديه هذه السلطة فمن حقه استخدامها وخصوصاً في الأمور المالية، وإذا لم يفعل فهو مخطئ، لأن سلطة الوزير المالية أكبر من سلطة وكيل أول وزارة، والوزير يُفوض هذه السلطة لكي يتمكن رؤساء القطاعات والهيئات من حرية الحركة".
-2-
لغة التأشيرة تختلف حسب نوعية المسئول وموقعه..
وهناك حكايات عن وزراء لهم أكثر من تأشيرة يفهم من خلالها المرءوسون إذا كان الوزير يريد تنفيذ الطلب فوراً أم يأخذ إجراءاته العادية..
ولكن التأشيرة الأشهر في المصالح الحكومية هي (لاتخاذ اللازم) وهي -كما يقول عيد- تكون من مستوي إداري أعلي إلي مستوي إداري أقلّ: "يُرسله إليه لاتخاذ اللازم، بحيث يكون هذا اللازم معروفاً، أما في حالة إذا كان اللازم غير معروف فإن التأشيرة تحدد ما يريده الرئيس من مرءوسه"..
كان محمد البساطي يشرح المخالفة الإدارية ويقدّم إثباتاته ثم يكتب "لإجراء التحقيق اللازم وموافاتنا بالنتيجة)..
ومن ضمن هذه المخالفات ما يرويه عما حدث في إحدي المصالح الحكومية: "كان ثمة خزنتان يفصل بينهما جدار لا يصل إلي السقف، دخلت إلي الأولي وطلبت منهم بشكل مفاجئ فتحها، وانتهيت إلي أن كل شيء سليم، ثم دخلت إلي الثانية، وكاد الأمر أن يمرّ بسلام لولا أن لفت نظري أن هناك (رزمة) بقيمة خمسين ألف جنيه كانت موجودة في الخزنة الأولي من شكل دوبارتها الموجودة علي الجانب.. وفكرت في أنهم سلموا (الرزمة) من أعلي الجدار"!
وضع البساطي (الرزمة) في قلب الخزنة وشمّعها بالشمع الأحمر وعاد إلي الخزنة الأولي: "صحت في الموظفين: من منكم المختلس بالضبط؟! كانت حكاية مسخرة"!
ولكن قبل طلب إجراء التحقيق واتخاذ اللازم كان لا بد من إجراء آخر، هو محضر إثبات حالة. يواصل البساطي حكاياته: "كنت أقوم بالتفتيش علي مخازن ملابس أحد السجون، كنت أعد البالات، وكانت ملفوفة بصفيح سميك، ولكن رأيت أربع بالات ملفوفة بسلك، وطلبت فتحها، وفوجئت بأنها تحوي (خرق) قماش، وكله لابس العمّة".
كتب صاحب "ويأتي القطار" محضر إثبات الحالة، ووقّع، وأجبر مديري المخازن والمصلحة علي التوقيع!
مندوبو الجهاز المركزي للمحاسبات يتشككون أحياناً في التأشيرات ويطلبون إحالتها إلي الطب الشرعي. يقول البساطي: "تأشيرات صرف الأموال يتم الشك فيها بسبب أمور واقعية. مثلاً قد تكون التأشيرة لمسئول موجود في إعارة، وهذا التوقيع يمكن أن يذهب بصاحبه في ستين داهية". كلام عيد يفسّر ما قاله البساطي: "التأشيرة المالية هي الأساس في صرف الأموال، هذه التأشيرة يأخذ بها الجهاز المركزي باعتبار أن صاحبها هو صاحب السلطة المختص، والسلطة المختصة تعبير قانوني يُقصد به الشخص الذي له الحق بالتصرّف في الحدود التي يضعها القانون، وبالتالي صاحب السلطة المختصة مسئول عن تأشيرته لأنها هي الأساس في تصريف الأمور جميعاً".
عيد لديه حكايات أيضاً عن الزمن الذي قضاه في الوظيفة: "أنا شخص استثنائي، خرجت إلي المعاش بدرجة وكيل أول وزارة بدون نيابة إدارية أو محاكمة تأديبية، بل إنني كنت استثناء عند ترقيتي أيضاً، فكل الناس عند الترقي يذهبون إلي الرقابة الإدارية ويدخلون في مناقشات طويلة عريضة، أما أنا فقد تمت ترقيتي إلي درجتي المدير العام ووكيل الوزارة دون أن أذهب أصلاً إلي الرقابة الإدارية"!
كانت تأشيرات عيد محددة ودقيقة جداً، خصوصاً في المسائل المالية: "الذين عملوا معي يعرفون كيف كنت أدقق إلي درجة لا تُحتمل في الأمور المالية، وأظنّ أنّ هؤلاء تعلموا مني، وهم الآن قيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة".
ولأنهم يعرفون هذا جيداً عنه لم يكن رؤساء الهيئات يضعونه في موقف محرج يحتاج فيه إلي تفسير تأشيراتهم: "لم أكن أقوم بتنفيذ أي موضوع إلا إذا كان سليماً من الناحية القانونية، وهكذا خرجت من ذلك المأزق"!
-3-
هناك أيضاً تأشيرة (برجاء الموافقة علي كذا)..
وهذه التأشيرة تصدر من مستوي أقل إلي مستوي أعلي، وهذا يعني أن موقع الموظف يحدد لغة الخطاب. المستوي الأدني يرجو ويطلب، والأعلي يأمر.
المستوي الأعلي لا تهمه مخاطبة المرءوسين بالألقاب، والعكس صحيح.
اختلف التعبير ولكن لهجة الأمر، وإغداق الألقاب (سيادة السيد الأستاذ الكبير المحترم ممشوق القوام) كان استمراراً لتقاليد قديمة جداً: "كانت الألقاب في العهد الفاطمي تُغدق بسخاء وسرف، فتتعدد في إسهاب بولغ إلي حد الإملال، فكان اليازوري وزير الحاكم بأمر الله يُلقّب ب(الناصر للدين، غياث المسلمين، الوزير الأجل المكين، سيّد الرؤساء، وتاج الأصفياء، قاضي القضاة وداعي الدعاة)، وقد سار الأيوبيون علي هذا النمط، فاستعملوا الألقاب والكنايات المكانية، وشاع استعمال لقب الجناب، والحضرة، وظل الحال في دولتي المماليك علي هذا المنوال"..
أما الديباجة الخاصة بمحمد علي فكانت شديدة البساطة: "دستور مكرم، مشير مفخم، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب، متمم مهام الأنام بالرأي الصائب، ممهد بنيان الدولة والإقبال، مشيّد أركان السعادة والإجلال، المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلي، مصر واليسي (أي والي مصر) وزيرم (أي وزيري) محمد علي باشا أدام الله تعالي إجلاله"!!
باشا تتم مخاطبته بهذا الشكل كيف كان يري المصريين؟!: "لُقّب عامة الرعية بالعبيد، وأشير إليهم رسمياً في المحررات الرسميّة بأنهم عبيد الوالي، وعبيد إحسانه"!
وهكذا..»كان الموظفون عبيده وعبيد إحسانه باعتبارهم من رعيته. كان يُحاسبهم علي زلاتهم وهفواتهم الإدارية حساباً عسيراً يتجاوز حدود التقويم والزجر إلي البطش والتنكيل، حتي أن العقوبات البدنية كانت قوام التأديب الإداري شأن الرقيق المماليك سواء بسواء"..
يقول محمد علي في "أمر كريم" مؤنباً حسين بك مدير القليوبية وما معها لتراخيه في ضبط عصابة: "تجمعوا النظّار إياهم وتعطوا صورة لضبط الأنفار المذكورين جميعاً، وأما إذا لم تضبطوهم وتحضروهم فكيف تخلصوا من يدنا أنت والخنازير المذكورين"..
ويقول في "أمر كريم" آخر: "أما أنتم أيها النظار والمعاونين وكبار المشايخ، ومشايخ البلاد وغيرهم من المنوط بهم عملية الزراعة فلا بد من إزالتكم كلية من الحياة ونجعلكم رهينة حفر في الأرض ولا نقبل قولاً ولا مقالة في هذا الخصوص"..
- 4 -
من المؤكد أن اللغة اختلفت، ولكن ثمة ما يشير إلي أن هناك حبراً قديماً في لغة المكاتبات الجديدة وتأشيراتها وألقابها.
الموظف الكبير يأمر..
والموظف الصغير يرجو أولاً.. ثم يطلب.. ثم يجد نفسه في موقع المسئولية!
وبعد تحديد المسئولية يأتي تلويث السمعة..
وطبعاً السجن.
محمد السيد عيد -صاحب الجملة السابقة- ترقي السلّم من بدايته، إلي أن وصل لآخر السلم الوظيفي في الدولة وهو "وكيل أول وزارة". وحينما يقرر ذلك يقرره من واقع خبرة عميقة.
طرح موضوع التأشيرات في هذا التوقيت له ما يبرره، فبعد حبس محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق علي ذمة التحقيقات الخاصة بسرقة لوحة زهرة الخشخاش من متحف محمود خليل اندلعت حرب التأشيرات..
محامي شعلان قدّم إلي النيابة حافظة مستندات تؤكد أنه أرسل مكاتبات إلي فاروق عبد السلام مشرف مكتب وزير الثقافة يطلب فيها توفير اعتمادات مالية لتأمين المتاحف الفنية ولم يتلق استجابة منذ 2008..
المستندات تؤكد أيضاً أنّ شعلان حذّر من انهيار أنظمة المراقبة والإنذار والتكييف وطلب في الموازنة المقترحة لسنة (2008/2009) 134 مليون جنيه لتطوير الأنظمة الأمنية، لكن الدولة لم توفر سوي 85 مليوناً، كما طلب في أكتوبر 2008 توفير 40 مليوناً لتطوير الأنظمة الأمنية لكنّ وزارة التنمية الاقتصادية لم تخصص لذلك البند سوي نصف مليون فقط، وبدوره قدم وزير الثقافة عندما أدلي بأقواله في النيابة مستندات تدين محسن.
إلي أي حد -إذن- يمكن أن تسهم تأشيرات شعلان في تبرئة ساحته أو أن تدينه مستندات الوزير؟
المسألة أكبر من تأشيرة. هذا ما يقرره الروائي محمد البساطي -الذي كان موظفاً كبيراً لدي الجهاز المركزي للمحاسبات- : "هناك أسئلة كثيرة تثور هنا. هل اطّلع فاروق حسني علي المكاتبات أم لا؟! هل طلب شعلان الاعتمادات في الوقت المناسب أم لا؟! الأخطر.. أن حسني أعطي لشعلان تفويض وزير فيما يخص عمليات الإصلاح والترميم ماعدا إغلاق المتحف الذي جعله من اختصاصه هو فقط".
هذا يعني أن ثمة تأشيرة يمكنها أن تجعل المسئول (غير مسئول) أمام القانون، وتجبّ التأشيرات التي تليها..
وهذا يعني أيضاً أنّ مسألة اطّلاع المسئول علي المكاتبات واستلامها قد تكون غير مفيدة حتي ولو تأكد وصولها. يقول محمد السيد عيد: "هناك سجلات، الخطاب يخرج من مكتب المسئول من خلال سجلّ الصادر، ويستلمه مكتب المسئول الآخر من خلال سجل الوارد، ويكون هناك توقيع بالاستلام، توقيع يثبت أنّ المرسل قد قال شيئاَ معيناً، وهو إما مسئول عن هذا الشيء، أو يخلي مسئوليته منه". علي أنّ عيد بعكس البساطي يُعطي أهمية للمكاتبات أمام النيابة: "الأصل في المسائل القانونية تقديم المستندات، أما الكلام الشفوي فلا يُعتدّ به، المستندات عليها توقيعات تُحدد المسئولية بدقة".
الإثنان، البساطي وعيد، يتفقان علي أهمية تفويض الوزير. يقول الأخير: "تفويض الوزير تفويض سلطة، وطالما أنّ الشخص لديه هذه السلطة فمن حقه استخدامها وخصوصاً في الأمور المالية، وإذا لم يفعل فهو مخطئ، لأن سلطة الوزير المالية أكبر من سلطة وكيل أول وزارة، والوزير يُفوض هذه السلطة لكي يتمكن رؤساء القطاعات والهيئات من حرية الحركة".
-2-
لغة التأشيرة تختلف حسب نوعية المسئول وموقعه..
وهناك حكايات عن وزراء لهم أكثر من تأشيرة يفهم من خلالها المرءوسون إذا كان الوزير يريد تنفيذ الطلب فوراً أم يأخذ إجراءاته العادية..
ولكن التأشيرة الأشهر في المصالح الحكومية هي (لاتخاذ اللازم) وهي -كما يقول عيد- تكون من مستوي إداري أعلي إلي مستوي إداري أقلّ: "يُرسله إليه لاتخاذ اللازم، بحيث يكون هذا اللازم معروفاً، أما في حالة إذا كان اللازم غير معروف فإن التأشيرة تحدد ما يريده الرئيس من مرءوسه"..
كان محمد البساطي يشرح المخالفة الإدارية ويقدّم إثباتاته ثم يكتب "لإجراء التحقيق اللازم وموافاتنا بالنتيجة)..
ومن ضمن هذه المخالفات ما يرويه عما حدث في إحدي المصالح الحكومية: "كان ثمة خزنتان يفصل بينهما جدار لا يصل إلي السقف، دخلت إلي الأولي وطلبت منهم بشكل مفاجئ فتحها، وانتهيت إلي أن كل شيء سليم، ثم دخلت إلي الثانية، وكاد الأمر أن يمرّ بسلام لولا أن لفت نظري أن هناك (رزمة) بقيمة خمسين ألف جنيه كانت موجودة في الخزنة الأولي من شكل دوبارتها الموجودة علي الجانب.. وفكرت في أنهم سلموا (الرزمة) من أعلي الجدار"!
وضع البساطي (الرزمة) في قلب الخزنة وشمّعها بالشمع الأحمر وعاد إلي الخزنة الأولي: "صحت في الموظفين: من منكم المختلس بالضبط؟! كانت حكاية مسخرة"!
ولكن قبل طلب إجراء التحقيق واتخاذ اللازم كان لا بد من إجراء آخر، هو محضر إثبات حالة. يواصل البساطي حكاياته: "كنت أقوم بالتفتيش علي مخازن ملابس أحد السجون، كنت أعد البالات، وكانت ملفوفة بصفيح سميك، ولكن رأيت أربع بالات ملفوفة بسلك، وطلبت فتحها، وفوجئت بأنها تحوي (خرق) قماش، وكله لابس العمّة".
كتب صاحب "ويأتي القطار" محضر إثبات الحالة، ووقّع، وأجبر مديري المخازن والمصلحة علي التوقيع!
مندوبو الجهاز المركزي للمحاسبات يتشككون أحياناً في التأشيرات ويطلبون إحالتها إلي الطب الشرعي. يقول البساطي: "تأشيرات صرف الأموال يتم الشك فيها بسبب أمور واقعية. مثلاً قد تكون التأشيرة لمسئول موجود في إعارة، وهذا التوقيع يمكن أن يذهب بصاحبه في ستين داهية". كلام عيد يفسّر ما قاله البساطي: "التأشيرة المالية هي الأساس في صرف الأموال، هذه التأشيرة يأخذ بها الجهاز المركزي باعتبار أن صاحبها هو صاحب السلطة المختص، والسلطة المختصة تعبير قانوني يُقصد به الشخص الذي له الحق بالتصرّف في الحدود التي يضعها القانون، وبالتالي صاحب السلطة المختصة مسئول عن تأشيرته لأنها هي الأساس في تصريف الأمور جميعاً".
عيد لديه حكايات أيضاً عن الزمن الذي قضاه في الوظيفة: "أنا شخص استثنائي، خرجت إلي المعاش بدرجة وكيل أول وزارة بدون نيابة إدارية أو محاكمة تأديبية، بل إنني كنت استثناء عند ترقيتي أيضاً، فكل الناس عند الترقي يذهبون إلي الرقابة الإدارية ويدخلون في مناقشات طويلة عريضة، أما أنا فقد تمت ترقيتي إلي درجتي المدير العام ووكيل الوزارة دون أن أذهب أصلاً إلي الرقابة الإدارية"!
كانت تأشيرات عيد محددة ودقيقة جداً، خصوصاً في المسائل المالية: "الذين عملوا معي يعرفون كيف كنت أدقق إلي درجة لا تُحتمل في الأمور المالية، وأظنّ أنّ هؤلاء تعلموا مني، وهم الآن قيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة".
ولأنهم يعرفون هذا جيداً عنه لم يكن رؤساء الهيئات يضعونه في موقف محرج يحتاج فيه إلي تفسير تأشيراتهم: "لم أكن أقوم بتنفيذ أي موضوع إلا إذا كان سليماً من الناحية القانونية، وهكذا خرجت من ذلك المأزق"!
-3-
هناك أيضاً تأشيرة (برجاء الموافقة علي كذا)..
وهذه التأشيرة تصدر من مستوي أقل إلي مستوي أعلي، وهذا يعني أن موقع الموظف يحدد لغة الخطاب. المستوي الأدني يرجو ويطلب، والأعلي يأمر.
المستوي الأعلي لا تهمه مخاطبة المرءوسين بالألقاب، والعكس صحيح.
اختلف التعبير ولكن لهجة الأمر، وإغداق الألقاب (سيادة السيد الأستاذ الكبير المحترم ممشوق القوام) كان استمراراً لتقاليد قديمة جداً: "كانت الألقاب في العهد الفاطمي تُغدق بسخاء وسرف، فتتعدد في إسهاب بولغ إلي حد الإملال، فكان اليازوري وزير الحاكم بأمر الله يُلقّب ب(الناصر للدين، غياث المسلمين، الوزير الأجل المكين، سيّد الرؤساء، وتاج الأصفياء، قاضي القضاة وداعي الدعاة)، وقد سار الأيوبيون علي هذا النمط، فاستعملوا الألقاب والكنايات المكانية، وشاع استعمال لقب الجناب، والحضرة، وظل الحال في دولتي المماليك علي هذا المنوال"..
أما الديباجة الخاصة بمحمد علي فكانت شديدة البساطة: "دستور مكرم، مشير مفخم، مدبر أمور الجمهور بالفكر الثاقب، متمم مهام الأنام بالرأي الصائب، ممهد بنيان الدولة والإقبال، مشيّد أركان السعادة والإجلال، المحفوف بصنوف عواطف الملك الأعلي، مصر واليسي (أي والي مصر) وزيرم (أي وزيري) محمد علي باشا أدام الله تعالي إجلاله"!!
باشا تتم مخاطبته بهذا الشكل كيف كان يري المصريين؟!: "لُقّب عامة الرعية بالعبيد، وأشير إليهم رسمياً في المحررات الرسميّة بأنهم عبيد الوالي، وعبيد إحسانه"!
وهكذا..»كان الموظفون عبيده وعبيد إحسانه باعتبارهم من رعيته. كان يُحاسبهم علي زلاتهم وهفواتهم الإدارية حساباً عسيراً يتجاوز حدود التقويم والزجر إلي البطش والتنكيل، حتي أن العقوبات البدنية كانت قوام التأديب الإداري شأن الرقيق المماليك سواء بسواء"..
يقول محمد علي في "أمر كريم" مؤنباً حسين بك مدير القليوبية وما معها لتراخيه في ضبط عصابة: "تجمعوا النظّار إياهم وتعطوا صورة لضبط الأنفار المذكورين جميعاً، وأما إذا لم تضبطوهم وتحضروهم فكيف تخلصوا من يدنا أنت والخنازير المذكورين"..
ويقول في "أمر كريم" آخر: "أما أنتم أيها النظار والمعاونين وكبار المشايخ، ومشايخ البلاد وغيرهم من المنوط بهم عملية الزراعة فلا بد من إزالتكم كلية من الحياة ونجعلكم رهينة حفر في الأرض ولا نقبل قولاً ولا مقالة في هذا الخصوص"..
- 4 -
من المؤكد أن اللغة اختلفت، ولكن ثمة ما يشير إلي أن هناك حبراً قديماً في لغة المكاتبات الجديدة وتأشيراتها وألقابها.
الموظف الكبير يأمر..
والموظف الصغير يرجو أولاً.. ثم يطلب.. ثم يجد نفسه في موقع المسئولية!
وبعد تحديد المسئولية يأتي تلويث السمعة..
وطبعاً السجن.
0 التعليقات:
إرسال تعليق