الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

إطلالة عابرة

:41


الأصل .. الدين أم الوطن؟


حسن البنا يختزله الكثيرون في الدعوة الإسلامية، وهو فهم قاصر بدليل أنه عاشق للوطن أرقه حال بنيه.


بقلم: فؤاد قنديل

مصر ليست فقط النيل والأهرامات والقلعة والسد العالي وجامع السلطان حسن والأقصر والإسكندرية والمنيا وأسوان وغيرها من المعالم المادية، لكنها أيضا وقبل هذا .. التاريخ والجغرافيا والتراث والدين والفنون والآداب وعظماء الأعلام .. الأعلام المخلصون الذين لم يفكروا إلا في تقديم إضافات مهمة لمعني الوطن .. ولم يحولوه إلى سبوبة (نحن الآن نعيش عصر السبوبة التي لا تعرف الرحمة).

الوطن ليس فقط المباني ولكنه كل ما يقبل الخلود، المعنوي قبل المادي. الوطن هو الروح أيضا والقيم. وهو الأم التي تأسى لأتراح أبنائها وتسعد لأفراحهم.

إطلالة عابرة في صفحات التاريخ تعرض لنا محاولات لا حصر لها لنصرة الوطن ورفعة شأنه قام بها الراشدون من وجهة نظرهم، وفي بلاد كثيرة حدث هذا، واكتنفت المبادرات التي استهدفت تقدم الأمم مبالغات بل وحماقات مثل ما جرى لألمانيا وأوروبا على يد هتلر وموسيليني، ولكنهما تصورا أنهما يقدمان على ذلك من أجل الوطن، كما تصور نابليون بحروبه في أوروبا وأفريقيا أنه ينقل فرنسا إلى الصدارة.

وفي مصر حاولت جماعات كثيرة من الشيوعيين والوفديين والإخوان المسلمين وعدد من الأحزاب، وشتي أطياف المناضلين كل حسب نظرياته ومعتقداته استنقاذ الوطن من الذل والحرمان والجهل. حاولوا بكل إخلاص، إلى درجة الموت، أن يضعوا أقدام المصريين على الدرب الصحيح، ذلك أنهم كانوا على يقين أن الهدف هو الوطن. الوطن الذي يعد الحضن الكبير والأرض التي نقف ونعيش عليها وبدونها التيه والعذاب.

اجتهد المفكرون والمثقفون والثوار في تقديم الرؤى والسعي لتحقيقها في الواقع من أجل الحبيبة مصر، حتى من تصور أنه في الحقيقة يدين بالولاء لماركس، ومن اعتقد أنه إنما يسعي لترسيخ حب الله في النفوس واتباع منهج رسوله الكريم، كان في الحقيقة يحاول استرداد الوطن بطريقته وعلى مذهبه ووفقا لما اعتقد. بدليل أن الجماعات الإسلامية (ليس هنا مجال الحكم عليها) لم تشتعل وتتأجج نيرانها إلا في حالات فشل الأنظمة وسوء أحوال الجماهير وانتشار الفساد.

لم يتحرك الملك عبدالعزيز بن سعود لجمع أشلاء الجزيرة العربية من أجل الدين ولكن من أجل الوطن، وهكذا فعل غريبالدي في إيطاليا، ولم يناضل جيفارا من أجل الشيوعية ولكن من أجل حرية الأوطان، ولم يكن ينوى مهاتير محمد تقديم صورة للغرب عن الإسلام الجديد الحق الذي يعتمد على العلم والعمل والنظام، ولكنه كان يفعل ذلك من أجل وطن مبدد وضال. ولم يقاوم الهنود الحمر وحشية الغزاة في أميركا الشمالية من أجل الكنوز المخبأة في الأرض ولا من أجل أي معتقد بل من أجل الوطن، ولا يدافع الفلسطينيون عن القدس من أجل الدين ولكن من أجل رمز الوطن.

الوطن إذن هو الأصل، وهو الهدف، ومن أجل ازدهاره تحرك الثوار من الطهطاوي الذي لم ينتم لمذهب محدد لكنه استخدم كل الوسائل وأولها العلم من أجل سلامة الوطن وتقدمه، مرورا بالنديم وعرابي ومصطفي كامل وسعد زغلول وطلعت حرب الذي غرد خارج السرب وقد عشق الوطن بطريقته، وبالطبع كان منهم محمود مختار أحد صناع نهضة مصر الفنية، وسيد درويش وطه حسين وبيرم التونسي وأم كلثوم وحسن البنا الذي يختزله الكثيرون في الدعوة الإسلامية، وهو فهم قاصر بدليل أنه كان يبني شبابا بالدين والعلم والقوة، وهو عاشق للوطن أرقه حال بنيه، إلى أن نصل إلى عبدالناصر الذي لم يعرف غير الوطن، والوطن عنده ليس مصر وحدها، وإن كانت البؤرة.

الوطن هو الأصل، وهو الشمس وقبل المنافع والمكاسب وقبل المناصب وكل أشكال السلطة وقبل كل الانتماءات. الوطن .. هو الحل .. الوطن .. هو الحل، ولا يكون الوطن هو الحل إلا بالضمير.

فؤاد قنديل ـ روائي مصري

0 التعليقات:

إرسال تعليق